الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشعراوي: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)}.{قُلْ} أي: يا محمد {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالًا} [الكهف: 103] الأخسر: اسم تفضيل من خاسر، فأخسر يعني أكثر خسارة {أْعْمَالًا} أي: خسارتهم بسبب أعمالهم. وهؤلاء الأخسرين هم: {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ}.وقد ضلَّ سَعْي هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر، ويظنون أنه خير فهم ضالّون من حيث يظنون الهداية. ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر، ويُنَادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة، ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صُنْعًا وقدَّموا خَيْرًا، لكن هل أعمالهم هذه كانت لله؟الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيمًا وتكريمًا وتخليدًا لذكراهم.ومعنى: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف: 104] أي: بطُل وذهب وكأنه لا شيءَ، مثل السراب كما صَوَّرهم الحق سبحانه في قوله: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَاءً حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39].وهؤلاء لا يبخسهم الله حقوقهم، ولا يمنعهم الأَجْر؛ لأنهم أحسنوا الأسباب، لكن هذا الجزاء يكون في الدنيا؛ لأنهم لما عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدنيا، ولا نصيبَ لهم في جزاء الآخرة.وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].ومع ذلك يُبقي للكافر حَقَّه، فلا يجوز لأحد من المؤمنين أنْ يظلمه أو يعتدي عليه، وفي حديث سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت أن مُحدِّثًا حدَّث عن رسول الله بحديث أحببت ألا أموت، أو يموت هو حتى أسمعه منه، فسألت عنه فقيل: إنه ذهب إلى الشام، قال: فاشتريت ناقة ورحَّلتها، وسرْت شهرًا إلى أنْ وصلتُ إلى الشام، فسألت عنه فقيل: إنه عبد الله بن أُنَيْس، فلما ذهبت قال له خادمه: إن جابر بن عبد الله بالباب، قال جابر: فخرج ابنُ أُنَيْس وقد وَطِئ ثيابه من سرعته. قال عبد الله: واعتنقا.قال جابر: حدِّثت أنك حدثتَ حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينادي يوم القيامة: يا ملائكتي، أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أنْ يدخلَ النار وله عند أحد من أهل الجنة حَقٌّ حتى أقصّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أنْ يدخلَ الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصَّه منه، حتى اللطمة».فانظر إلى دِقَّة الميزان وعدالة السماء التي تراعي حَقَّ الكافر، فتقتصّ له قبل أنْ يدخل النارَ، حتى ولو كان ظالمه مؤمنًا.وفي قوله تعالى: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا} [الكهف: 104] جاءت كلمة الضلال في القرآن الكريم في عِدّة استعمالات يُحدِّدها السياق الذي وردتْ فيه. فقد يأتي الضلال بمعنى الكفر، وهو قمة الضلال وقمة المعاصي، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السبيل} [البقرة: 108].ويُطلق الضلال، ويُراد به المعصية حتى من المؤمن، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].ويُطلق الضلال، ويُراد به أنْ يغيب في الأرض، كما في قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10].يعني: غِبْنا فيها واختفينا. ويُطلَق الضلال ويُراد به النسيان، كما في قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} [البقرة: 282].ويأتي الضلال بمعنى الغفلة التي تصيب الإنسان فيقع في الذنب دون قصد. كما جاء في قصة موسى وفرعون حينما وكز موسى الرجل فقضى عليه، فلما كلمه فرعون قال: {فَعَلْتُهَآ إِذًا وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20].أي: قتلتُه حال غفلة ودون قصد، ومَنْ يعرف أن الوكزة تقتل؟ والحقيقة أن أجلَ الرجل جاء مع الوكزة لا بها. ويحدث كثيرًا أن واحدًا تدهسه سيارة وبتشريح الجثة يتبين أنه مات بالسكتة القلبية التي صادفتْ حادثة السيارة.ويأتي الضلال بمعنى: أَلاّ تعرف تفصيل الشيء، كما في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلًا فهدى} [الضحى: 7] أي: لا يعرف ما هذا الذي يفعله قومه من الكفر.ثم يقول الحق سبحانه: {أولئك الذين كَفَرُواْ}.{كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الكهف: 105] والآيات تُطلَق ثلاثة إطلاقات، وقد كفروا بها جميعًا وكذَّبوا، كفروا بآيات الكون الدالة على قدرة الله، فلم ينظروا فيها ولم يعتبروا بها، وكفروا بآيات الأحكام والقرآن والبلاغ من رسول الله، وكذلك كفروا بآيات المعجزات التي أنزلها الله لتأييد الرسل فلم يصدقوها. إذن: كلمة: {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الكهف: 105] هنا عامة في كل هذه الأنواع.{ولقائه} أي: وكفروا أيضًا بلقاء الله يوم القيامة، وكذَّبوا به، فمنهم مَنْ أنكره كليةً فقال: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82].ومنهم مَن اعترف ببعْث على هواه، فقال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36].ومنهم مَنْ قال: إن البعث بالروح دون الجسد وقالوا في ذلك كلامًا طويلًا، إذن: إما ينكرون البعث، وإما يُصوِّرونه بصورة ليست هي الحقيقة.ثم يقول تعالى: {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف: 105] أي: بَطُلت وذهب نفعُها {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105].وقد اعترض المستشرقون على هذه الآية {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105] وقالوا: كيف نُوفِّق بينها وبين الآيات التي تثبت الميزان، كما في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].وقوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 711].ونقول: إن العلماء في التوفيق بين هذه الآيات قالوا: المراد بقوله تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْنًا} [الكهف: 105] جاءتْ على سبيل الاحتقار وعدم الاعتبار، فالمراد لا وزنَ لهم عندنا أي: لا اعتبارَ لهم، وهذه نستعملها الآن في نفس هذا المعنى نقول: فلان لا وزنَ له عندي. أي: لا قيمة له.وبالبحث في هذه الآية وتدبرها تجد أن القرآن الكريم يقول: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ} [الكهف: 105] ولم يَقُل: عليهم، إذن: الميزان موجود، ولكنه ليس في صالحهم، فالمعنى: لا نقيم لهم ميزانًا لهم، بل نقيم لهم ميزانًا عليهم.ثم يقول الحق سبحانه: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ}.{ذلك} أي: ما كان من إحباط أعمالهم، وعدم إقامتنا لهم وزنًا ليس تجنِّيًا مِنَّا عليهم أو ظلمًا لهم، بل جزاءً لهم على كفرهم فقوله: {بِمَا كَفَرُواْ} [الكهف: 106] أي: بسبب كفرهم.{واتخذوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 106] فقد استهزأوا بآيات الله، وكلما سمعوا آية قالوا: أساطيرُ الأولين: {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} [القلم: 15].وكذلك لم يَسْلَم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سخريتهم واستهزائهم، والقرآن يحكي عنهم قولهم لرسول الله: {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] فقولهم: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} [الحجر: 6] أي: القرآن وهم لا يؤمنون به سُخرية واستهزاءً.وفي سورة المنافقون يقول القرآن عنهم: {هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} [المنافقون: 7] فقولهم: {رَسُولِ الله} [المنافقون: 7] ليس إيمانًا به، ولكن إمّا غفلة منهم عن الكذب الذي يمارسونه، وإما سُخْرية واستهزاءً كما لو كنتَ في مجلس، ورأيتَ أحدهم يدَّعِي العلم ويتظاهر به فتقول: اسألوا هذا العالم.وفي آية أخرى يقول سبحانه عن استهزائهم برسول الله: {وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51]. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)}.قوله: {أَعْمَالًا}: تمييزٌ للأَخْسَرين، وجُمِعَ لاختلافِ الأنواع.قوله: {الذين ضَلَّ}: يجوز فيه الجرُّ نعتًا وبدلًا وبيانًا، والنصبُ على الذمِّ، والرفعُ على خبر ابتداء مضمر.قوله: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} يُسَمَّى في البديع تجنيسَ التصحيف وتجنيس الخَطِّ، وهذا مِنْ أحسنِه. وقال البحتري:فالأولُ من الغُرور، والثاني مِن العِزِّ. ومِنْ أحسنِ ما جاء في تجنيس التصحيف قوله: يصحف بنحو: وفي بعضِ رسائلِ الفصحاء: قَبَّلَ قبلَ يَدِكَ ثَراك، عبدٌ عند رَخاك رجاك، آمِلٌ أَمَّك.{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)}.وقرأ ابن عباس: {فَحَبِطَتْ} بفتح الباء. والعامَّة على {نُقيم} بنون العظمة مِنْ أقام. ومجاهد وعبيد بن عمير. {فلا يُقيم} بياءِ الغَيبة لتقدُّم قولِه: {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}، فالضميرُ يعود عليه. ومجاهدٌ أيضًا {فلا يقومُ لهم} مضارع قام، {وزنٌ} بالرفع.وعن عبيد بن عمير أيضًا {فلا يقومُ وزنًا} بالنصبِ كأنه تَوَهَّم أنَّ قام متعدٍّ. كذا قال الشيخ. والأحسنُ مِنْ هذا أنْ تُعْرَبَ هذه القراءةُ على ما قاله أبو البقاء أَنْ يُجْعَلَ فاعلُ {يقومُ} صنيعُهم أو سَعْيهُم، وينتصِبُ حينئذٍ {وَزْنًا} على أحد وجهين: إمَّا على الحال، وإمَّا على التمييز.قوله: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ}: فيه أوجهُ كثيرةٌ أحدُها: أَنْ يكونَ {ذلك} خبرَ مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، و{جزاؤُهم جهنَّم} جملةٌ برأسها. الثاني: أن يكون {ذلك} مبتدأ اولَ، و{جزاؤهم} مبتدأٌ ثانٍ و{جهنُم} خبرُه، وهو وخبرُه خبرُ الأول. والعائدُ محذوف، أي: جزاؤهم به، كذا قال أبو البقاء، فالهاء في {به} تعود على {ذلك}، و{ذلك} مُشارٌ به إلى عدم إقامة الوزن.قال الشيخ: ويحتاج هذا التوجيهُ إلى نظر. قلت: إنْ عَنَى النظرَ من حيث الصناعةُ فَمُسَلَّمٌ. ووجهُ النظر: أنَّ العائدَ حُذِفَ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ إلا بتكليفٍ، فإنَّ العائدَ على المبتدأ إذا كان مجرورًا لا يُحْذَفُ إلا إذا جُرَّ بحرفِ تبعيضٍ أو ظرفية، أو يَجُرُّ عائدًا جُرَّ قبله بحرفٍ، جُرَّ به المحذوفُ كقولِه: أي: مفلحٌ به. وإنْ عَنَى من حيث المعنى فهو معنى جيدٌ.الثالث: أن يكون {ذلك} مبتدًا، و{جزاؤهم} بدلٌ أو بيان، و{جهنم} خبره. الرابع: أن يكون {ذلك} مبتدأ أيضًا، و{جزاؤهم} خبره و{جهنمُ} بدلٌ أو بيانٌ أو خبر ابتداء مضمر. الخامس: أن يُجعل {ذلك} مبتدأ و{جزاؤهم} بدلٌ أو بيان و{جهنم} خبر ابتداءٍ مضمرٍ، و{بما كفروا} خبر الأول، والجملة اعتراضٌ. السادس: أن يكون {ذلك} مبتدًا، والجارُّ الخبر، و{جزاؤهم جهنمُ} جملةٌ معترضةٌ وفيه بُعْدٌ. السابع: أن يكون {ذلك} إشارةً إلى جماعة وهم مذكورون في قوله: {بالأخسرين}، وأُشير إلى الجمع كإشارة الواحد كأنه قيل: {أولئك جزاؤهم جهنَّمُ}، والإِعرابُ المتقدمُ يعودُ إلى هذا التقدير.قوله: {واتَّخذوا} فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه عطفٌ على {كفروا}، فيكونُ محلُّه الرفعَ لعطفِه على خبر {إنَّ}. الثاني: أنه متسأنفٌ فلا مَحَلَّ له.والباء في قوله: {بما كفروا} لا يجوزُ تعلُّقُها بـ: {جزاؤهم} للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه. اهـ.
|